فصل: تفسير الآيات رقم (1- 4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ تفريع إدماج بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ أي هديناه الطريقين فلمْ يسلك النجْد الموصِّل إلى الخير‏.‏

ويجوز أن يكون تفريعاً على جملة ‏{‏يقول أهلكت مالاً لبداً‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 6‏]‏ وما بينهما اعتراضاً، وتكون «لا اقتحم العقبة» استفهاماً حذف منه أداته‏.‏ وهو استفهام إنكار، والمعنى‏:‏ أنه يدعي إهلاك مَال كثيرٍ في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفَلا أهلكه في القُرَب والفضائل بفكّ الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإِنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافاً لما يدعيه من إنفاققٍ‏.‏

وعلى هذا الوجه لا يعرِض الإِشكال بعدم تكرُّر ‏(‏لا‏)‏ فإن شأن ‏(‏لا‏)‏ النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تتكرر أن تكون للدّعاء إلاّ إذا تكررت معها مثلُها معطوفةٌ عليها نحو قوله‏:‏ ‏{‏فلاَ صَدَّق ولا صلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ أو كانت ‏(‏لا‏)‏ معطوفة على نفي نحو‏:‏ ما خرجتُ ولا ركبتُ‏.‏ فهو في حكم تكرير ‏(‏لا‏)‏‏.‏ وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء، ولم تتكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو ‏{‏اقتَحَم العقبة‏}‏ يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله‏:‏ ‏{‏فكُّ رقبة أو إطعام‏}‏ فكأنه قال‏:‏ فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعم يتيماً أو مسكيناً‏.‏ ويجوز أن يكون عدم تكرير ‏(‏لا‏)‏ هنا استغناء بقوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فلا اقتحم العقبة ولا آمن‏.‏ ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاففٍ عن تكرير ‏(‏لا‏)‏ كالاستثناء في قول الحريري في «المقامة الثلاثين»‏:‏ «لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجّل إلا الذي جال وجاب» الخ وأُطلق ‏{‏العقبةُ‏}‏ على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه‏.‏ ولكل نجد عقبة ينتهي بها‏.‏ وفي العقبات تظهر مقدرة السابرة‏.‏

والاقتحام‏:‏ الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال‏:‏ اقتحم الصَفَّ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 35‏]‏‏.‏

والاقتحام‏:‏ ترشيح لاستعارة العقبة لِطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال‏:‏

والمورد العذب كثير الزحام ***

وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثاراً للعاجل على الآجل ولو عزم وصَبر لاقْتحم العقبة‏.‏ وقد تتابعت الاستعارات الثلاث‏:‏ النجدين، والعقبة، والاقتحام، وبُني بعضها على بعض وذلك من أحسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس‏.‏

والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإِدراك والنطق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبة‏}‏ حال من العقبة في قوله‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ للتنويه بها وأنها لأهميتها يَسأل عنها المخاطب هل أعلَمَهُ مُعْلِم ما هي، أي لم يقتحم العقبة في حال جَدارتها بأن تُقتحم‏.‏

وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ الأولى استفهام‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ الثانية مثلها‏.‏ والتقدير‏:‏ أيُّ شيء أعلمك ما هي العقبة، أي أعْلَمك جواب هذا الاستفهام، كناية عن كونه أمراً عزيزاً يحتاج إلى من يُعلمك به‏.‏

والخطاب في ‏{‏ما أدراك‏}‏ لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل‏.‏

وفِعل ‏{‏أدراك‏}‏ معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة‏.‏

وقرأ نافع وابنُ عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخَلف، ‏{‏فك رقبة‏}‏ برفع ‏{‏فكُّ‏}‏ وإضافتِه إلى ‏{‏رقبة‏}‏ ورفععِ ‏{‏إطعام‏}‏ عطفاً على ‏{‏فكّ‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فك رقبة‏}‏ بيان للعقبة والتقدير‏:‏ هي فكّ رقبة، فحذف المسند إليه حذفاً لمتابعة الاستعمال‏.‏ وتبيين العقبة بأنها‏:‏ ‏{‏فك رقبة أو إطعام‏}‏ مبني على استعارة العقبة للأعمال الصالحة الشاقة على النفس‏.‏ وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس، فلا وجه لتقدير من قدَّر مضافاً فقال‏:‏ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة‏.‏

وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو والكسائي ‏{‏فَكَّ‏}‏ بفتح الكاف على صيغة فعل المضي، وبنصب ‏{‏رقبةً‏}‏ على المفعول ل ‏{‏فكَّ‏}‏ أو «أطعم» بدون ألف بعد عين ‏{‏إطعام‏}‏ على أنه فعل مضي عطفاً على ‏{‏فَكَّ‏}‏، فتكون جملة‏:‏ ‏{‏فكَّ رقبةً‏}‏ بياناً لجملة ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ وما بينهما اعتراضاً، أو تكون بدلاً من جملة ‏{‏اقتحم العقبة‏}‏ أي فلا اقتحم العقبة ولا فكَّ رقبةً أو أطعم‏.‏ وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفاً‏.‏

والفك‏:‏ أخذ الشيء من يد من احتاز به‏.‏

والرقبة مراد بها الإنسان، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعيننٍ ووجهٍ، وإيثار لفظ الرقبة هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء‏.‏ هو رقبته لأنه في الغالب يوثَق من رقبته‏.‏

وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسْرٍ أو مِلْك، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع‏.‏

وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإِسلامي وهو تشوُّف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»‏.‏

والمسغبة‏:‏ الجوع وهي مصدر على وزن المَفْعَلَة مثل المَحْمَدة والمَرْحَمَة مِن سَغِبَ كفَرِح سَغَباً إذا جاع‏.‏

والمراد ب ‏{‏يوم ذي مسغبة‏}‏ زمانٌ لا النهار المعروف‏.‏

وإضافة ‏{‏ذي‏}‏ إلى ‏{‏مسغبة‏}‏ تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة، أي يوم مجاعة، وذلك زمن البَرد وزمنُ القَحط‏.‏

ووجه تخصيص اليوم ذي المسغبة بالإِطعام فيه أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتدادِ زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات‏.‏ فالإِطعام في ذلك الزمن أفضل، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة‏.‏

وانتصب ‏{‏يتيماً‏}‏ على المفعول به ل ‏{‏إطعام‏}‏ الذي هو مصدر عامل عمل فعله وإعمالُ المصدر غيرِ المضاف ولا المعرّففِ باللام أقيس وإن كان إعمال المضاف أكثرَ، ومنع الكوفيون إعمالَ المصدر غير المضاف‏.‏

ومَا ورد بعدَه مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم «يطعم يتيماً»‏.‏

واليتيم‏:‏ الشخص الذي ليس له أب، وهو دون البلوغ‏.‏ ووجه تخصيصه بالإِطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه‏.‏ فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة والفقر ووصف بكونه ‏{‏ذا مقربة‏}‏ أي مقربة من المطعِم لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه لأن في كونه يتيماً إغاثة له بالإِطعام، وفي كونه ذَا مقربة صلة للرحم‏.‏

والمَقْرَبة‏:‏ قرابة النسب وهو مصدر بوزن مَفْعَلة مثل ما تقدم في ‏{‏مسغبة‏}‏‏.‏

والمسكين‏:‏ الفقير، وتقدم في سورة البقرة ‏(‏184‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين وذا متربة‏}‏ صفة لمسكين جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف‏.‏

والمَتربة مصدر بوزن مفْعَلة أيضاً وفعِله تَرِب يقال‏:‏ ترب، إذا نام على التراب أي لم يكن له ما يفترشه على الأرض، وهو في الأصل كناية عن العُروِّ من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع وقريب منه قولهم في الدعاء‏:‏ تَرِبت يمينك‏:‏ وتربَت يداك‏.‏

و ‏{‏أو‏}‏ للتقسيم وهو معنى من معاني ‏(‏أو‏)‏ جاء من إفادة التخيير‏.‏

واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص، أي المشركين كان نفي فكّ الرقاب والإِطعام كنايةً عن انتفاء تحلّيهم بشرائع الإِسلام لأن فكّ الرقاب وإطعام الجياع من القُربات التي جاء بها الإِسلام من إطعام الجياع والمحاويج وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك، أو لمؤانسة الأخلاّء وذلك غالب أحوالهم، أي لم يطعموا يتيماً ولا مسكيناً في يوم مسغبة، أي هو الطعام الذي يرضاه الله لأن فيه نفع المحتاجين من عباده‏.‏ وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعَمين لأن تلك المطاعم كانوا يدْعُون لها أمثالهم من أهل الجِدّة دون حاجة إلى الطعام وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة‏.‏

وفي حديث مسلم ‏"‏ شر الطعام طعامُ الوليمة يُمْنَعْها من يأتيها ويُدعى إليها من يأباها ‏"‏ وروى الطبراني‏:‏ ‏"‏ شرّ الطعام طعام الوليمة يُدعى إليه الشَّبْعان ويُحبس عنه الجائع ‏"‏‏.‏

وإن كان المراد من الإِنسان واحداً معيناً جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم، وجاز أن يكون ذَمّاً له باللّؤْم والتفاخرِ الكاذب، وفضحاً له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإِسلام فلم يغرم غرامة في فَكاك أسير أو مأخوذٍ بدم أو مَنّ بحُرية على عبدٍ‏.‏

وأيَّاَ مَّا كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوفة عليه، فيصير تقدير الكلام‏:‏ فلا اقتحم العقبة بفكّ رقبة أو إطعاممٍ بعد كونه مؤمناً‏.‏ وفي فعل ‏{‏كان‏}‏ إشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه‏.‏

فعطفُ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس أو هذا الإِنسان المعين لم يكن من المؤمنين، وأنه ملوم على ما فَرَّط فيه لانتفاء إيمانه، وأنه لو فعل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عملُه شيئاً لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه ‏{‏ثم‏}‏ من التراخي الرتبي فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال‏.‏

وعن عائشة‏:‏ أنها قالت‏:‏ «يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله ‏(‏أي يريد التقرب‏)‏ فهل ينفعه ذلك شيئاً قال‏:‏ ‏"‏ لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ‏"‏‏.‏ ويفهم من الآية بمفهوم صفة الذين آمنوا أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محموداً‏.‏

ومن يجعل ‏{‏ثُم‏}‏ مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى‏:‏ لا اقتحم العقبة واتبعها بالإِيمان‏.‏ أي اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلمَ لمّا جاء الاسلام‏.‏

وقد جاء ذلك صريحاً في حديث حكيم بن حزام في الصحيح‏:‏ «قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أسلمت على ما سلف من خير ‏"‏ والتحنّث‏:‏ التعبد يعني أن دخوله في الإِسلام أفاده إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإِسلام‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏من الذين آمنوا‏}‏ دون أن يقول‏:‏ ثم كان مؤمناً، لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإِيمان من الوصف بمؤمن لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها فإن كثرة الخير خير، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف، وهو جعله بالموصول المشعرِ بأنهم عُرفوا بالإِيمان بَيْن الفرق‏.‏

وحُذِف متعلّق آمنوا‏}‏ للعلم به أي آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإِسلام‏.‏ فجُعل الفعل كالمستغني عن المتعلق‏.‏

وأيضاً ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة‏}‏ ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة‏.‏

وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإِيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشّهوة النفسانية وذلك من الصبر‏.‏

والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى‏:‏ ‏{‏رحماء بينهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏

والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضاً كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عَرَف قدرَها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يُوصي بها، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحضون على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة، وقد صُرح بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللَّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما يلقاها إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 33 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

لَمَّا نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم وبشارتهم مفتَتحاً باسم الإِشارة لتمييزهم أكمل تمييز لإِحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع، مع ما في اسم الإِشارة من إرادة التنويه والتعظيم‏.‏

و ‏{‏الميمنة‏}‏ جهة اليمين، فهي مَفْعَلة للمكان مأخوذة من فعل يَمَنَه ‏(‏فعلاً ماضياً‏)‏ إذا كان على يمينه، أي على جهة يده اليمنى، أو مأخوذة من يَمَنَه اللَّهُ يُمْناً، إذا بَاركه، وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى، قيل‏:‏ سميت اليد اليمنى يميناً ويُمنى لأنها أعود نفعاً على صاحبها في يسرْ أعماله، ولذلك سمي بلاد اليمن يَمَناً لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلاً الكعبة من بابها لأن باب الكعبة شرقي، فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن‏.‏ وكانت بلاد اليمن مشهورة بالخيرات فهي ميمونة‏.‏ وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة، وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشراً بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة فالأيامن الميمونة قال المرقش يفند ذلك‏:‏

فإذا الأشائِم كالأيا *** مِننِ والأيَامِنُ كالأشائِمْ

ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأماً بالهمز مشتقة من الشؤم لأن بلاد الشام من جهة شِمال الداخل إلى الكعبة وقد أبطل الإِسلام ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم بارك لنا في شأمِنا وفي يَمَنِنَا» وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يساراً إلا لإِبطال ما يُتوهم من الشؤم فيها‏.‏

ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع كرامةً للجالس، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك‏.‏ وقد أبطله الاسلام فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس‏.‏

وسمّي أهل الجنة ‏{‏أصحاب الميمنة‏}‏ و‏{‏أصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 27‏]‏ وسمي أهل النار ‏{‏أصحاب المشأمة‏}‏ و‏{‏أصحاب الشمال‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏41‏)‏، فقوله‏:‏ أولئك أصحاب الميمنة‏}‏ أي أصحاب الكرامة عند الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هم أصحاب المشأمة‏}‏ أي هم محقرون‏.‏ وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم‏.‏ ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حَيِّزاً لمن تُنسَب إليه الجهةُ‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة‏}‏ تتميم لِما سيق من ذم الإِنسان المذكور آنفاً إذ لم يعقّبْ ذمُّه هنالك بوعيده عِناية بالأهم وهو ذكر حالة أضداده ووعدِهم، فلما قُضي حق ذلك ثُني العنان إلى ذلك الإِنسان فحصل من هذا النظم البديع محسِّن ردّ العجز على الصدر، ومحسن الطباق بين الميمنة والمشأمة‏.‏

وقد عرف آنفاً أن المشأمة منزلة الإِهانة والغضب، ولذلك أتبع بقوله‏:‏ ‏{‏عليهم نار مؤصدة‏}‏‏.‏

وضمير الفصل في قوله‏:‏ ‏{‏هم أصحاب المشأمة‏}‏ لتقوية الحكم وليس للقصر، إذ قد استفيد القصر من ذكر الجملة المضادة للتي قبلها وهي ‏{‏أولئك أصحاب الميمنة‏}‏‏.‏

و ‏{‏مؤصدة‏}‏ اسم مفعول من أوصد الباب بالواو‏.‏ ويقال‏:‏ أأصد بالهمز وهما لغتان، قيل‏:‏ الهمز لغة قريش وقيل‏:‏ معناه جعله وصيدة‏.‏ والوصيدة‏:‏ بيت يتخذ من الحجارة في الجبال لحفظ الإبل‏.‏ فقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مُوصَدة‏}‏ بواو ساكنة بعد الميم من أوصد بالواو، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم من ءَاصد الباب، بهمزتين بمعنى وصَده‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏عليهم نار موصدة‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏هم أصحاب المشأمة‏}‏ أو استئناف بياني ناشئ عن الإِخبار عنهم بأنهم أصحاب المشأمة‏.‏

و ‏{‏عليهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏مؤصدة‏}‏، وقدم على عامله للاهتمام بتعلق الغلق عليهم تعجيلاً للترهيب‏.‏

وقد استتب بهذا التقديم رعاية الفواصل بالهاء ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وإسناد المُوصَديَّة إلى النار مجاز عقلي، والموصد هو موضع النار، أي جهنم‏.‏

سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏

القسم لتأكيد الخبر، والمقصود بالتأكيد هو ما في سَوق الخبر من التعريض بالتهديد والوعيد بالاستئصال‏.‏

والواوات الواقعة بعد الفواصل واوات قَسَم‏.‏

وكل من الشمس، والقمر والسماء والأرض، ونفس الإِنسان، من أعظم مخلوقات الله ذاتاً ومعنىً الدالة على بديع حكمته وقويّ قدرته‏.‏

وكذلك كل من الضحى، وتُلو القمر الشمس والنهار، والليل من أدق النظام الذي جعله الله تعالى‏.‏

والضحى‏:‏ وقتُ ارتفاع الشمس عن أفق مشرقها، وظهور شعاعها، وهو الوقت الذي ترتفع فيه الشمس متجاوزة مشرقها بمقدار ما يخيل للناظر أنه طول رُمح‏.‏

ومهد لذلك بالتنبيه على أن تزكية النفس سبب الفلاح، وأن التقصير في إصلاحها سبب الفجور والخسران‏.‏

والتلُوَّ‏:‏ التبع وأريد به خَلف ضوئه في الليل ضوءَ الشمس، أي إذا ظهر بعد مغيبها فكأنه يتبعها في مكانها، وهذا تلو مجازي‏.‏ والقمر يتبع الشمس في أحوال كثيرة منها استهلاله، فالهلال يظهر للناظرين عقب غروب الشمس ثم يبقى كذلك ثلاث ليال، وهو أيضاً يَتلو الشمس حين يقارب الابتدارَ وحين يصير بدراً فإذا صار بدراً صار تُلوّه الشمسَ حقيقة لأنه يظهر عندما تغرب الشمس، وقريباً من غروبها قبله أو بعده، وهو أيضاً يضيء في أكثر ليالي الشهر جعله الله عوضاً عن الشمس في عدة ليال في الإِنارة، ولذلك قُيّد القسم بحين تلوه لأن تلوه للشمس حينئذ تظهر منه مظاهر التلوّ للناظرين، فهذا الزمان مثل زمان الضحى في القسم به، فكان بمنزلة قَسَم بوقت تُلوه الشمس، فحصل القسم بذات القمر وبتلوه الشمس‏.‏

وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس، أي من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر، وليس نيّراً بذاته، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن وهو مما أشرت إليه في المقدمة العاشرة‏.‏

وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإِسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكاً، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، واتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإِسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي‏.‏

ومناسبة استحضار السماء عقب ذكر الشمس والقمر، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل، واضحة، ثم ذكرت النفس الإنسانية لأنها مظهر الهدى والضلال وهو المقصود‏.‏

والضمير المؤنث في قوله‏:‏ ‏{‏جلاها‏}‏ ظاهره أنه عائد إلى الشمس فمعنى تجلية النهار بالشمس وقت ظهور الشمس‏.‏

فإسناد التجلية إلى النهار مجاز عقلي والقَسَم إنما هو بالنهار لأنه حالة دالة على دقيق نظام العالم الأرضي‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد إلى الأرض، أي أضاء الأرض فتجلت للناظرين لظهور المقصود كما يقال عند نزول المطر «أرسلت» يعنون أرسلت السماء ماءَها‏.‏

وقُيد القَسَم بالنهار بقيد وقت التجلية إدماجاً للمنة في القسم‏.‏

وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض، ولما في حالها وحال أضوائها من الإِيماء إلى أنها مثل لظهور الإِيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور فإن الكفر والمعاصي تُمثَّل بالظلمة والإِيمانَ والطاعاتتِ تُمثَّل بالضياء قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وأعقب القسَمُ بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقتَ النهار فهو وقت الإِظلام‏.‏

والغشي‏:‏ التغطية وليس الليل بمغطّ للشمس على الحقيقة ولكنه مسبَّب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب وهو زمن لذلك الغشي‏.‏ فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زَمنه أو إلى مسببه ‏(‏بفتح الباء‏)‏‏.‏

والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تُجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية، وقيل‏:‏ ضمير المؤنث في ‏{‏يغشاها‏}‏ عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في ‏{‏والنهار إذا جلاها‏}‏‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إذا تلاها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذا جلاها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذا يغشاها‏}‏ في محل نصب على الظرفية متعلقة بكَون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر، أي مقسماً بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدِها دلالة على عظيم صنع الله تعالى‏.‏

وبناء السماء تشبيهٌ لرفعها فوق الأرض بالبناء‏.‏ والسماء آفاق الكواكب قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 17‏]‏ وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيراً بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور‏.‏

وطَحْوُ الأرض‏:‏ بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع، يقال‏:‏ طحا يَطحو ويطحي طحواً وطَحْياً وهو مرادف «دحَا» في سورة النازعات ‏(‏30‏)‏‏.‏

و«النفس»‏:‏ ذات الإِنسان كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27‏]‏ وتنكير «نفس» للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموماً بالقرينة على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وتسوية النفس‏:‏ خلقها سواء، أي غير متفاوتة الخَلْق، وتقدم في سورة الانفطار ‏(‏7‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقك فسواك‏.‏‏}‏ ومَا‏}‏ في المواضع الثلاثة من قوله‏:‏ ‏{‏وما بناها‏}‏، أو ‏{‏ما طحاها‏}‏، ‏{‏وما سواها‏}‏، إمّا مصدرية يؤوَّلُ الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعةُ السماء وطَحْوُهُ الأرض وتسويته الإِنسان‏.‏ %

وعطف ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ على ‏{‏سواها‏}‏، فهو مقسم به، وفعل «ألهمها» في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة ‏{‏ما‏}‏ المصدرية، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشئ عن التسوية، فضمير الرفع في «ألهمها» عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من ‏{‏سواها‏}‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ موصولة صادقة على فعل الله تعالى، وجملة ‏{‏بناها‏}‏ صلة الموصول، أي والبناءِ الذي بنَى السماء، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس‏.‏

فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإِلهام‏.‏

والإِلهام‏:‏ مصدر ألهم، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجردَ منه مُمات والإِلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهداً له من كلام العرب‏.‏

ويطلق الإِلهام إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانياً كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية والنظرية‏.‏

وإيثار هذا الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإِنسان، قال الراغب‏:‏ الإِلهام‏:‏ إيقاع الشيء في الرُوع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وَجهة الملأ الأعلى ا ه‏.‏ ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواجُ أمثال ذلك في اللغة قبل الإِسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب، وهو مشتق من اللّهْم وهو البلْع دَفعةً، يقال‏:‏ لَهِم كفرح، وأما إطلاق الإِلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية‏.‏

والمعنى هنا‏:‏ أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإِدراك الضروري المدرَّج ابتداء من الانسياق الجِبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يُكره، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام‏.‏

وتعدية الإِلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية، فلولا العقول لما تيسّر إفهامُ الإِنسان الفجور والتقوى، والعقابَ والثواب‏.‏

وتقديم الفجور على التقوى مراعىً فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ‏.‏

ومجيء فعل‏:‏ «ألهمها» بصيغة الإِسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ ‏{‏ما‏}‏ إن جعلتَها موصولة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون الجملة جواب القسم، وإن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخَيبة المشركين كما جُعل في سورة الليل ‏(‏4، 5‏)‏ جوابَ القسم قولْه‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى فأما من أعطى‏}‏ الخ‏.‏

ويجوز أن تكون جملةً معترضة بين القَسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى، أي أفلح من زكّى نفسه واتّبع ما ألهمه الله من التقوى، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإِدراك والإِرشاد الإلهي‏.‏

وهذه الجملة توطئة لجملة‏:‏ ‏{‏كذبت ثمود بطغواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11‏]‏ فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دَسَّوا أنفسهم بالطغوى‏.‏

وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبته للتقوى، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ صادقة على الإِنسان، أي الذي زكى نفسه بأن اختار لها ما به كمالها ودفع الرذائل عنها، فالإِنسان والنفس شيء واحد، ونزلا منزلة شيئين باختلاف الإِرادة والاكتساب‏.‏

والتزكية‏:‏ الزيادة من الخير‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏دساها‏}‏ حال بينها وبين فعل الخير‏.‏ وأصل فعل دسّى‏:‏ دسّ، إذا أدخل شيئاً تحت شيء فأخفاه، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلباً للتخفيف كما قالوا‏:‏ تقضّى البازي أو تقضض، وقالوا‏:‏ تظنيت، أي من الظن‏.‏

وإن كانت جملة ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ جواب القسم فجملة ‏{‏كذبت ثمود بطغواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11‏]‏ في موقع الدليل لمضمون جملة ‏{‏وقد خاب من دساها‏}‏ أي خاب كخيبة ثمود‏.‏

والفلاح‏:‏ النجاح بحصول المطلوب، والخيبة ضده، أي أن يُحرم الطالب مما طلبه‏.‏

فالإِنسان يرغب في الملائم النافع، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال الدائمان، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح، والثاني يحصِّل نفعاً عارضاً زائلاً وكمالاً موقتاً ينقلب انحطاطاً فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة‏.‏

والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها‏.‏

وفي هذه الآيات مُحسّن الطباق غير مرّة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما، ومثل النهار والليل، والتجلية والغشي، والسماء والأرض، والبناء والطحو، والفجور والتقوى، والفلاح والخيبة، والتزكية والتدسية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏دساها * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبعث أشقاها * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله‏}‏ ‏{‏وسقياها * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا‏}‏‏.‏

إن كانت جملة ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏ الخ معترضة كانت هذه جواباً للقسم باعتبار ما فرع عليها بقوله‏:‏ ‏{‏فدمدم عليهم ربهم بذنبهم‏}‏ أي حقاً لقد كان ذلك لِذلك، ولام الجواب محذوف تخفيفاً لاستطالة القسم، وقد مثلوا لحذف اللام بهذه الآية وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء ذات البروج‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قتل أصحاب الأخدود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 1 4‏]‏‏.‏

والمقصود‏:‏ التعريض بتهديد المشركين الذين كذّبوا الرسول طغياناً هم يعلمونه من أنفسهم كما كذبت ثمود رسولهم طغياناً، وذلك هو المحتاج إلى التأكيد بالقَسَم لأن المشركين لم يهتدوا إلى أن ما حل بثمود من الاستئصال كان لأجل تكذيبهم رسول الله إليهم، فنبههم الله بهذا ليتدبروا أو لتنزيل علم من علم ذلك منهم منزلة الإِنكار لعدم جَرْي أمرهم على موجَب العلم، فكأنه قيل‏:‏ أقسم لَيصيبكم عذابٌ كما أصاب ثمود، ولقد أصاب المشركين عذاب السيف بأيدي الذين عادَوْهم وآذوهم وأخرجوهم، وذلك أقسى عليهم وأنكى‏.‏

فمفعول ‏{‏كذبت‏}‏ محذوف لدلالة قوله بعده‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول الله‏}‏ والتقدير‏:‏ كذبوا رسول الله‏.‏

وتقدم ذكْر ثمود ورسولهم صالح عليه السلام في سورة الأعراف‏.‏

وباء ‏{‏بطغواها‏}‏ للسببية، أي كانت طغواها سبب تكذيبهم رسول الله إليهم‏.‏

والطغوى‏:‏ اسم مصدر يقال‏:‏ طغا طَغْوا وطُغياناً، والطغيان‏:‏ فرط الكِبر، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏15‏)‏، وفيه تعريض بتنظير مشركي قريش في تكذيبهم بثمود في أن سبب تكذيبهم هو الطغيان والتكبر عن اتباع من لا يرون له فضلاً عليهم‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف للزمن الماضي يتعلق ب ‏{‏طغواها‏}‏ لأن وقت انبعاث أشقاها لعقر الناقة هو الوقت الذي بدت فيه شدة طغواها فبعثوا أشقاهم لعقر الناقة التي جُعلت لهم آية وذلك منتهى الجُرأة‏.‏

و ‏{‏انبعث‏}‏‏:‏ مطاوع بَعَث، فالمعنى‏:‏ إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك‏.‏ و‏{‏إذ‏}‏ مضاف إلى جملة‏:‏ ‏{‏انبعث أشقاها‏}‏‏.‏

وقدم ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول الله ناقة الله‏}‏ لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جُزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقاً بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله، ويستفاد أيضاً من قوله‏:‏ ‏{‏فعقروها‏}‏‏.‏

و ‏{‏أشقاها‏}‏‏:‏ أشدها شِقوة، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قُدار ‏(‏بضم القاف وتخفيف الدال المهملة‏)‏ بن سالف، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء‏.‏

والفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول الله‏}‏ عاطفة على ‏{‏كذبت‏}‏ فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها، ويَكون معنى الكلام‏:‏ كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذَّرهم من التعرض لها بسوء ومِن منعهم شربها في نوبتها من السُّقيا، وعطف على ‏{‏فكذبوه‏}‏، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور ثانياً‏.‏ وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود‏.‏

ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 36‏]‏ فإن إزلالهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإِخراج لا قبله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏، فيكون المعنى‏:‏ كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها‏.‏ ثم فُصل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول اللَّه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فعقروها‏}‏، والعقر عند انبعاث أشقاها، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف وهو‏:‏ ‏{‏إذ انبعث أشقاها‏}‏ مقدَّماً من تأخير‏.‏

وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعىً فيها أن ثمود اسم قبيلة‏.‏

وانتصب ‏{‏ناقة اللَّه‏}‏ على التحذير، والتقدير‏:‏ احذروا ناقة الله‏.‏ والمراد‏:‏ التحذير من أن يؤذوها، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات، والمرادُ‏:‏ أحوالها‏.‏

وإضافة ‏{‏ناقة‏}‏ إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقاً للعادة‏.‏

والسقيا‏:‏ اسم مصدر سَقى، وهو معطوف على التحذير، أي احذروا سقيها، أي احذروا غصب سقيها، فالكلام على حذف مضاف، أو أطلق السقيا على الماء الذي تسقى منه إطلاقاً للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات‏.‏ والمراد‏:‏ حالة تعرف من المقام، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها‏.‏

والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله‏:‏ ‏{‏ناقة اللَّه‏}‏، تكذيب ثاننٍ وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد‏.‏ والإِنذار بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف ‏(‏73‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم‏.‏‏}‏ وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإِنذار بالعذاب‏.‏

والعَقْر‏:‏ جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحَر في لبته، فالعقر كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما‏.‏

فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ‏}‏ ‏{‏فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عقباها‏}‏‏.‏

أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب‏.‏ والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الصيحة‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 73‏]‏، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها‏.‏

فوزن دَمْدَم فَعْلَل، وقال أكثر المفسرين‏:‏ دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض، يقال‏:‏ دَمَّمَ عليه القبر، إذا أطبقه ودَمْدَم مكرر دَمَّم للمبالغة مثل كَبْكَب، وعليه فوزن دَمْدَم فَعْلَلَ‏.‏

وفرع على «دمدم عليهم» ‏{‏فسواها‏}‏ أي فاستَووا في إصابتها لهم، فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من «دمدم عليهم»‏.‏

ومن فسروا «دمدم» بمعنى‏:‏ أطبق عليهم الأرض قالوا معنَى «سوَّاها»‏:‏ جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم، وجَعَلوا ضمير المؤنث عائداً إلى الأرض المفهومة من فعل «دمدم» فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تسوى بهم الأرض‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وبين ‏{‏فسواها‏}‏ هنا وقوله‏:‏ ‏{‏وما سواها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 7‏]‏ قبله محسن الجناس التام‏.‏

والعقبى‏:‏ ما يحصل عقِب فعل من الأفعال مِن تبعة لفاعِلِه أو مَثوبة، ولما كان المذكور عقاباً وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنّى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدَأ له بال حتى يثأر لنفسه، ولذلك يقولون‏:‏ الثَّأْر المُنِيم، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذراً من أن يتمكن مغلوبُه من الثأر، أخْبَرَ الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبُه على أخذ الثأر منه، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين، وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة ‏{‏فلا يخاف عقباها‏}‏ تذييل للكلام وإيذان بالختام‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فلا يخاف عقباها‏}‏ تمثيلاً لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك مَن يثأر له فيكون المثَل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ‏{‏فلا يخاف عقباها‏}‏ بفاء العطف تفريعاً على ‏{‏فدمدم عليهم ربهم‏}‏ وهو مكتوب بالفاء في مصاحف المدينة ومصحف الشام‏.‏‏.‏‏.‏ ومعنى التفريع بالفاء على هذه القراءة تفريع العلم بانتفاء خوف الله منهم مع قوَّتهم ليرتدع بهذا العلم أمثالهم من المشركين‏.‏

وقرأ الباقون من العشرة‏:‏ ‏{‏ولا يخاف عقباها‏}‏ بواو العطف أو الحال، وهي كذلك في مصاحف أهل مكة وأهل البصرة والكوفة، وهي رواية قُرائها‏.‏ وقال ابن القاسم وابن وهب‏:‏ أخرج لنا مالك مصحفاً لجدِّه وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كَتب المصاحف وفيه ‏{‏ولا يخاف‏}‏ بالواو، وهذا يقتضي أن بعض مصاحف المدينة بالواو ولكنهم لم يقرأوا بذلك لمخالفته روايتهم‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏‏}‏

افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه، وغرض ذلك ما تقدم آنفاً‏.‏

ومناسبة المُقْسَممِ به للمُقْسَممِ عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما يماثلان النور والظلمة وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر والأنثى ذرية صالحة وغير صالحة‏.‏

وفي القسم بالليل وبالنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانه الجانِب الذي يغشاه من الأرض‏.‏ ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين، لأن ذلك أقوى أحواله، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهوره على الأرض كذلك‏.‏

وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها‏}‏ في سورة الشمس ‏(‏3، 4‏)‏‏.‏

واختير القسم بالليل والنهار لمناسبتِه للمقام لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة‏.‏

وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكسَ ما في سورة الشمس لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور وأيَّامئذٍ كان الكفر مخيماً على الناس إلا نفراً قليلاً، وكان الإِسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بالإِشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إذا تردى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 4 11‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5‏]‏ الآية ليتمكن تفصيله في الذهن‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏يغشى‏}‏ لتنزيل الفعل منزلة اللازم لأن العبرة بغشيانه كلَّ ما تغشاه ظلمته‏.‏

وأسند إلى النهار التَجلي مدحاً له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء‏.‏

والتجلّي‏:‏ الوضوح، وتجلي النهار‏:‏ وضوح ضيائه، فهو بمعنى قوله‏:‏ ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والضحى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وأشير إلى أن ظلمة الليل كانت غالبة لضوء النهار وأن النهار يعقبها والظلمةُ هي أصل أحوال أهل الأرض وجميع العوالم المرتبطة بالنظام الشمسي وإنما أضاءت بعد أن خلق الله الشمس ولذلك اعتبر التاريخ في البدء بالليالي ثم طَرأ عليه التاريخ بالأيام‏.‏

والقول في تقييد الليل بالظرف وتقييد النهار بمثله كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها في السورة السابقة‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وما خلق الذكر والأنثى‏}‏ مصدرية أقسم الله بأثر من آثار قدرته وهو خلق الزوجين وما يقتضيه من التناسل‏.‏

والذكر والأنثى‏:‏ صنفا أنواع الحيوان‏.‏ والمراد‏:‏ خصوص خلق الإنسان وتكونه من ذكر وأنثى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏ لأنه هو المخلوق الأرفع في عالم الماديات وهو الذي يدرك المخاطَبون أكثرَ دقائقه لتكرره على أنفسهم ذُكورهم وإناثهم بخلاف تكوّن نسل الحيوان فإن الإنسان يدرك بعض أحواله ولا يُحصي كثيراً منها‏.‏

والمعنى‏:‏ وذلك الخلققِ العجيب من اختلاف حالي الذكورة والأنوثة مع خروجهما من أصل واحد، وتوقف التناسل على تزاوجهما، فالقسم بتعلققٍ مِن تعلققِ صفات الأفعال الإلهية وهي قِسْم من الصفات لا يُختلف في ثبوته وإنما اختلَف علماء أصول الدين في عدّ صفات الأفعال من الصفات فهي موصوفة بالقدم عند الماتريدي، أو جَعْلِها من تعلق صفة القدرة فهي حادثة عند الأشعري، وهو آيل إلى الخلاف اللفظي‏.‏

وقد كان القسم في سورة الشمس بتسوية النفس، أي خلق العقل والمعرفة في الإِنسان، وأما القَسَم هنا فبِخلق جسد الإِنسان واختلاف صنفيه، وجملة‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ جوابُ القسم‏.‏ والمقصود من التأكيد بالقسم قولُه‏:‏ ‏{‏وما يغني عنه مالُهُ إذا تردى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والسَّعي حقيقته‏:‏ المشي القوي الحثيث، وهو مستعار هنا للعمل والكدّ‏.‏

وشتّى‏:‏ جمع شتيت على وزن فَعْلَى مثل قَتِيل وقَتْلى، مشتق من الشتِّ وهو التفرق الشديد يقال‏:‏ شتَّ جمعُهم، إذا تفرقوا، وأريد به هنا التنوع والاختلاف في الأحوال كما في قول تأبط شرّاً‏:‏

قليل التشكي للملم يصيبه *** كثير الهوى شَتَّى النَّوى والمسالك

وهو استعارة أو كناية عن الأعمال المتخالفة لأن التفرق يلزمه الاختلاف‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم‏}‏ لجميع الناس من مؤمن وكافر‏.‏

واعلم أنه قد روي في «الصحيحين» عن علقمة قال‏:‏ «دخلت في نفر من أصحاب عبد الله ‏(‏يعني ابنَ مسعود‏)‏ الشام فسمع بِنا أبو الدرداء فأتانا فقال‏:‏ أيكم يقرأ على قراءة عبد الله‏؟‏ فقلت‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ كيف سمعتَه يقرأ‏؟‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ قال سمعته يقرأ‏:‏ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى» قال‏:‏ أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا»‏.‏ وسماها في «الكشاف»‏:‏ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أي ثَبت أنه قرأ بها، وتأويل ذلك‏:‏ أنه أقرأها أبا الدرداء أيام كان القرآن مرخَّصاً فيه أن يُقرأ على بعض اختلاف، ثم نُسخ ذلك الترخيص بما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو الذي اتفق عليه قراء القرآن‏.‏ وكتب في المصحف في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وقد بينت في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير معنى قولهم‏:‏ قراءة النبي صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فأما‏}‏ تفريع وتفصيل للإِجمال في قوله‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 4‏]‏ فحرف ‏(‏أمَّا‏)‏ يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى‏:‏ مَهما يكن من شيء، والتفصيل‏:‏ التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرَد بعضها عن بعض بحالة هي التي يُعتنَى بتمييزها‏.‏ وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه‏}‏ في سورة الفجر ‏(‏15‏)‏‏.‏

والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور، ولكن جعل التفصيلُ ببيان الساعين بقوله‏:‏ فأما من أعطى‏}‏ لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويُلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة‏:‏

وقَد خِفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعللٍ في ذي المَطارة عَاقِل

أي على مخافة وَعِل‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر‏}‏ إلخ في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ الآية، أي كإيمان من آمن بالله‏.‏

وانحصر تفصيل «شتى» في فريقين‏:‏ فريق ميسَّر لليسرى وفريق ميسَّر للعسرى، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير، والتحذير من الشر، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏ في سورة الزلزلة ‏(‏6 8‏)‏‏.‏ ويجوز أن يجعل تفصيل شتى هم من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى، ومنْ بخل واستغنى وكذب بالحسنى وذلك عدد يصح أن يكون بياناً لشتّى‏.‏

ومَن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من أعطى‏}‏ الخ وقوله‏:‏ ‏{‏من بخل‏}‏ الخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدِّق بالحسنى‏.‏ وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأعتقه ليُنجيه من تعذيب أمية بن خلف، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوضَ أمية بن خلف، وهم وهَم‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي‏.‏ وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسببُ النزول لا يخصص العموم‏.‏

وحُذف مفعول ‏{‏أعطى‏}‏ لأن فعل الإِعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض، يُنزَّل منزلَة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال ‏(‏ولذلك يسمى المالُ الموهوب عَطاءَ‏)‏، والمقصود إعطاء الزكاة‏.‏

وكذلك حُذف مفعول ‏{‏اتقى‏}‏ لأنه يعلم أن المقدّر اتّقى الله‏.‏

وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان، فالمعنى‏:‏ فأما من كان من المؤمنين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 43 44‏]‏، أي لم نك من أهل الإيمان‏.‏

وكذلك فعل ‏{‏بَخل‏}‏ لم يُذكر متعلقه لأنه أريد به البخل بالمال‏.‏

و ‏{‏استغنى‏}‏ جُعل مقابلاً ل ‏{‏اتَّقى‏}‏ فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمْرِ الله ودعوته لأن المصرَّ على الكفر المعرِضَ عن الدعوة يَعُد نفسه غنياً عن الله مكتفياً بولاية الأصنام وقومِه، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استحباب بمعنى أجاب‏.‏

وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال، فتكون السين والتاء للطلب، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين‏.‏

والحُسنى‏:‏ تَأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفَة لموصوف مقدر، وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث اللفظ ويحتمل أموراً كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة‏.‏

وقد يصير هذا الوصف علماً بالغلبة فقيل‏:‏ الحسنى الجنة، وقيل‏:‏ كلمة الشهادة، وقيل‏:‏ الصلاة، وقيل‏:‏ الزكاة‏.‏ وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها‏.‏

وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان‏.‏

ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى‏.‏

ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله‏:‏ ‏{‏وكذب بالحسنى‏}‏‏.‏

والتيسير‏:‏ جعل شيء يسيرَ الحصول، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيراً، أي غير شديد، والمجرور باللام بعده هو الذي يسهَّل الشيءُ الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسر لي أمري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏‏.‏

واليسرى في قوله‏:‏ ‏{‏لليسرى‏}‏ هي ما لا مشقة فيه، وتأنيثها‏:‏ إما بتأويل الحالة، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة، وهي حالة النعيم، أو على تأويلها بالمكانة‏.‏ وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد‏.‏ ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه، أي الملائم‏.‏

والعسرى‏:‏ إما الحالة وهي حالة العسر والشدة، أي العذاب، وإما مكانته وهي جهنّم، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى‏:‏ ‏{‏فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 9، 10‏]‏، فمعنى‏:‏ «نيسره» ندرّجُهُ في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية، فالأعمال اليسرى هي الصالحة، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال‏.‏

وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مراداً منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏.‏

وحرف ‏(‏ال‏)‏ في «اليسرى» وفي «العسرى» لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني‏.‏

وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر إذ جُعل ضمير الغيبة في «نيسره لليسرى» العائدُ إلى ‏{‏من أعطى واتقى‏}‏ هو الميسرَ، وجعل ضمير الغيبة في «نيسره للعسرى» العائدُ إلى ‏{‏من بخل واستغنى‏}‏ هو الميسرَ، أي الذي صار الفعل صعبُ الحصول حاصلاً له، وإذ وقع المجروران باللام «اليسرى» و«العسرى»، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بَخل، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين‏:‏

الأولى‏:‏ إيفاء فعل «نيسر» على حقيقته وجَعْلُ الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام‏:‏ فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب، فيصار إلى أن المتقضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسَّر ميسراً له والميسر له ميسراً على نحو ما وجهوا به قول العرب‏:‏ عرضت الناقة على الحوض‏.‏

والثانية‏:‏ أن يكون التيسير مستعملاً مجازاً مرسلاً في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له، وتكون اللام من قوله‏:‏ ‏{‏لليسرى‏}‏ و‏{‏للعسرى‏}‏ لام التعليل، أي نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى، فالمراد باليسرى الجنة وبالعُسرى جهنم، على أن يكون الوصفان صارا علماً بالغلبة على الجنة وعلى النار، والتهيئةُ لا تكون لذات الجنة وذاتتِ النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخُول اليسرى ولدخول العسرى، أي سنعجّل به ذلك‏.‏

والمعنى‏:‏ سنَجْعل دخول هذه الجنةَ سريعاً ودخولَ الآخِر النارَ سريعاً، بشبه الميسَّر من صعوبة لأن شأن الصعب الإِبطاءُ وشأن السهل السرعةُ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك حشر علينا يسير‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 44‏]‏، أي سريع عاجل‏.‏ ويكون على هذا الوجه قوله‏:‏ ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ مشاكلةٌ بُنِيت على استعارة تهكمية قرينتها قولُه‏:‏ «العسرى»‏.‏ والذي يدعو إلى هذا أن فعل «نيسر» نصبَ ضمير ‏{‏من أعطى واتقى وصدَّق‏}‏، وضمير ‏{‏من بَخل واستغنى وكذَّب، فهو تيسيرٌ ناشئ عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى اتَّقى‏}‏ أو معنى ‏{‏استغنى‏}‏، فالأعمال سابقة لا محالة‏.‏ والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها‏.‏

ويجوز أن يكون معنى الآية‏:‏ أن يُجعل التيسير على حقيقتِهِ ويجعل اليسرى وصفاً أي الحالة اليسرى، والعسرى أي الحالة غير اليسرى‏.‏

وليس في التركيب قلب، والتيسير بمعنى الدوام على العمل، ففي «صحيح البخاري» عن علي قال‏:‏ ‏"‏ كنا مع رسول الله في بقيع الغَرقد في جنازة فقال‏:‏ ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مَقْعَده من الجنة ومَقْعَدَه من النار، فقالوا‏:‏ يا رسول الله أفلا نتكِلُ‏؟‏ فقال‏:‏ اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له‏.‏ أما أهل السعادة فَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏ ‏"‏ اه‏.‏

فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله‏:‏ ‏"‏ ما من أحد إلا وقد كتبَ مقعده ‏"‏ الخ معناه قد علم الله أن أحداً سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُوافيَ عليه، أو سيعمل بعمل أهل النار حتى يُوافِيَ عليه، فقوله‏:‏ «وقد كتب مقعده» جعلت الكتابة تمثيلاً لعلم الله بالمعلومات علماً موافقاً لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصاً دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط‏.‏

فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس، ومعنى جوابه‏:‏ أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة‏.‏ وذُكر مقابله وهو العمل السيئ إتماماً للفائدة ولا علاقة له بالجواب‏.‏

وليس مجازه مماثلاً لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل السعادة فتعين أن يكون تيسيراً للعمل، أي إعداداً وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها‏.‏

فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعقب كلامه بأن قرأ‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى‏}‏ الآية لأنه قرأها تبييناً واستدلالاً لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومَحَلّ الاستدلال هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسنيسره‏}‏‏.‏

فالمقصود منه إثبات أن من شؤون الله تعالى تيسراً للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلاً للسعادة كالإيمان أو للشقاوة كالكفر، أم كان للعمل مما يزيد السعادة ويُنقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمناً لأن ثبوت أحد معنَيَي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلاً لثبوت التيسير مِن أصله‏.‏

أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله‏:‏ «اعملوا» لأن الآية ذكرت عملاً وذكرت تيسيراً لليسرى وتيسيراً للعسرى، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنياً بها السعادة والعسرى معنياً بها الشقاوة، وما صدْق السعادة الفوز بالجنة، وما صدْقَ الشقاوة الهُويُّ في النار‏.‏

وإذ كان الوعدُ بتيسير اليُسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإِعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات، أي جزاءٌ عن فعلها‏:‏ فالمتيسر‏:‏ تيسير الدوام عليها، وتكون اليسرى صفة للأعمال، وذلك من الإِظهار في مقام الإِضمار‏.‏ والأصل‏:‏ مستيسر له أعمالَه، وعدل عن الإِضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها مُيسرة من الله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ في سورة الأعلى ‏(‏8‏)‏‏.‏

وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها، وبين تعلُّق خطابه إياهم بشرائعه، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على الجنة أو الوقوع في جهنم‏.‏

وإنما خص الإِعطاء بالذِكْر في قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى‏}‏ مع شمول ‏{‏اتقى‏}‏ لمفاده، وخص البخل بالذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وأما من بخل واستغنى‏}‏ مع شمول ‏{‏استغنى‏}‏ له، لتحريض المسلمين على الإِعطاء، فالإِعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين‏.‏

وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم، ومحسن الطباق، أربع مرات بين ‏{‏أعطى‏}‏ و‏{‏بخل‏}‏، وبين ‏{‏اتقى‏}‏، و‏{‏استغنى‏}‏، وبين و‏{‏صدق‏}‏ و‏{‏كذب‏}‏ وبين «اليسرى» و«العسرى»‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما يغني عنه ماله إذا تردى‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ أي سنعجل به إلى جهنم‏.‏ فالتقدير‏:‏ إذا تردّى فيها‏.‏

والتردّي‏:‏ السقوط من علوّ إلى سفل، يعني‏:‏ لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئاً من عذاب النار‏.‏

و ‏{‏مَا‏}‏ يجوز أن تكون نافية‏.‏ والتقدير‏:‏ وسَوْف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ‏.‏ ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف‏.‏ والمعنى‏:‏ وما يغني عنه ماله الذي بخل به‏.‏

رَوى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ «أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمرٌ أكله صبيةٌ لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة، فشكا المسلم ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة فلم يفعل، وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله اشترِها مني بنخلة في الجنة فقال‏:‏ نعم والذي نفسي بيده، فأعطاها الرجلَ صاحب الصبية ‏"‏ قال عكرمة قال ابن عباس‏:‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للعسرى‏}‏ وهو حديث غريب، ومن أجل قول ابن عباس‏:‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ قال جماعة‏:‏ السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيراً ما يقع في كلام المتقدمين قولهم‏:‏ فأنزل الله في كذا قوله كذا، أنهم يريدون به أن القصّة ممّا تشمله الآية‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كمْ من عَذْق رَدَاحْ في الجنة لأبي الدحداح ‏"‏ ولمح إليها بشار بن برد في قوله‏:‏

إن النُحيلة إذْ يميل بها الهوى *** كالعَذق مال على أبي الدحداح

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏‏}‏

استئناف مقرّر لمضمون الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏للعسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5 10‏]‏، وذلك لإِلقاء التبعة على من صار إلى العسرى بأن الله أعذر إليه إذ هداه بدعوة الإسلام إلى الخير فأعرض عن الاهتداء باختياره اكتسابَ السيئات، فإن التيسير لليسرى يحصل عند ميل العبد إلى عمل الحسنات، والتيْسير للعسرى يحصل عند ميله إلى عمل السيئات‏.‏ وذلك الميل هو المعبَّرُ عنه بالكسب عند الأشعري، وسماه المعتزلة‏:‏ قدرة العبد، وهو أيضاً الذي اشتبه على الجبرية فسمَّوْه الجبر‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ ولام الابتداء يومئ إلى أن هذا كالجواب عما يجيش في نفوس أهل الضلال عند سماع الإِنذار السابق من تكذيبه بأن الله لو شاء منهم مَا دعاهم إليه لألجأهم إلى الإِيمان‏.‏ فقد حكي عنهم في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وحرف ‏(‏على‏)‏ إذا وقع بين اسم وما يدل على فِعل يُفيد معنى اللزوم، أي لازم لنا هُدَى الناس، وهذا التزام من الله اقتضاه فضله وحكمته فتولى إرشاد الناس إلى الخير قبل أن يؤاخذهم بسوء أعمالهم التي هي فساد فيما صنع الله من الأعيان والأنظمة التي أقام عليها فطرة نظام العالم، فهدى الله الإنسان بأن خلقه قابلاً للتمييز بين الصلاح والفساد ثم عزز ذلك بأن أرسل إليه رُسلاً مبينين لما قد يخفى أمرُه من الأفعال أو يشتبه على الناس فساده بصلاحه ومنبهين الناس لما قد يغفلون عنه من سابق ما علموه‏.‏

وعطف ‏{‏وإن لنا للآخرة والأولى‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ تتميم وتنبيه على أن تعهّد الله لعباده بالهُدى فضلٌ منه وإلا فإن الدار الآخرة ملكه والدار الأولى ملكه بما فيهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللَّه ملك السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏ فله التصرف فيهما كيف يشاء فلا يحسبوا أن عليهم حقاً على الله تعالى إلا ما تفضل به‏.‏

وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن أمور الجزاء في الأخرى تجري على ما رتبه الله وأعلم به عباده‏.‏ وأن نظام أمور الدنيا وترتب مسبباته على أسبابه أمر قد وضعه الله تعالى وأمر بالحفاظ عليه وأرشد وهدى، فمن فرط في شيء من ذلك فقد استحق ما تسبب فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذِكري إذا كان فعل‏:‏ «أنذرتكم» مستعملاً في ماضيه حقيقةً وكان المراد الإِنذار الذي اشتمل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏تردى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 8 11‏]‏‏.‏ وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدلّ على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذار مفصَّللٍ على إنذارٍ مجمل‏.‏

ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعلُ «أنذرتكم» مراداً به الحال وإنما صيغ في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في‏:‏ قد قَامت الصلاة، وقولهم‏:‏ عزمت عليك إلاّ ما فعلت كذا، أي أعزم عليك، ومثل ما في صيغ العقود‏:‏ كبعتُ، وهو تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 12‏]‏ والمعنى‏:‏ هديكم فأنذرتكم إبلاغاً في الهدى‏.‏

وتنكير ‏{‏ناراً‏}‏ للتهويل، وجملة ‏{‏تلظى‏}‏ نعت‏.‏ وتلظى‏:‏ تلتهب من شدة الاشتعال‏.‏ وهو مشتق من اللّظى مصدر‏:‏ لَظَيَتْ النار كرَضيتْ إذا التهبت، وأصل ‏{‏تلظى‏}‏ تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار‏.‏

وجملة ‏{‏لا يصلاها إلا الأشقى‏}‏ صفة ثانية أو حال من ‏{‏ناراً‏}‏ بعد أن وصفت‏.‏ وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ والقرينة على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ الآية‏.‏

وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال‏:‏ هذه الآية التي من أجلها قال أهلُ الإِرجاء بالإِرجاء فزعموا‏:‏ أن لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ظنوا‏:‏ هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اه‏.‏

والمعنى‏:‏ لا يصلاها إلا أنتم‏.‏

وقد أتبع ‏{‏الأشقى‏}‏ بصفة ‏{‏الذي كذب وتولى‏}‏ لزيادة التنصيص على أنهم المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتولوا، أي أعرضوا عن القرآن، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين‏:‏ إما كافر وإما مؤمن تقي، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإِسلام بشراشرهم، ولذلك عطف ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ الخ تصريحاً بمفهوم القصر وتكميلاً للمقابلة‏.‏

و ‏{‏الأشقى‏}‏ و‏{‏الأتقى‏}‏ مراد بهما‏:‏ الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام‏.‏

وذكر القرطبي‏:‏ أن مالكاً قال‏:‏ صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ فلما بلغ‏:‏ ‏{‏فأنذرتكم ناراً تلظى‏}‏ وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعدّاها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى»‏.‏

ووصف ‏{‏الأشقى‏}‏ بصلة ‏{‏الذي كذب وتولى‏}‏، ووصف ‏{‏الأتقى‏}‏ بصلة ‏{‏الذي يؤتى ماله يتزكى‏}‏ للإِيذان بأن للصلة تسبباً في الحكم‏.‏

وبين ‏{‏الأشقى‏}‏ و‏{‏الأتقى‏}‏ محسن الجناس المضارع‏.‏

وجملة ‏{‏يتزكى‏}‏ حال في ضمير ‏{‏يؤتي‏}‏، وفائدة الحال التنبيه على أنه يؤتي ماله لقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضاً بالمشركين الذي يؤتون المال للفخر والرياء والمفاسد والفجور‏.‏

والتزكي‏:‏ تكلف الزكاء، وهو النماء من الخير‏.‏

والمَال‏:‏ اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها‏.‏

ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل‏.‏

وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم، فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما لأحد عنده من نعمة تجزى‏}‏ الآية اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمَّا أعتق بلالاً قال المشركون‏:‏ ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده‏.‏ وهو قول من بهتانهم ‏(‏يعللون به أنفسهم كراهية لأن يكون أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين‏)‏، فأنزل الله تكذيبهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما لأحد عنده من نعمة تجزى‏}‏ مراداً به بعض من شمله عموم ‏{‏الذي يؤتي ماله يتزكى‏}‏، وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصص للعموم ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله‏:‏ ‏{‏وآتى المال على حبه ذوي القربى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏‏.‏

و ‏{‏عنده‏}‏ ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازاً في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب، قال الحارث بن حِلِّزَة‏:‏

من لنا عِندَه من الخير آيا *** ت ثلاث في كلهن القضاء

و‏{‏من نعمة‏}‏ اسم ‏{‏ما‏}‏ النافية جر ب ‏{‏من‏}‏ الزائدة التي تزاد في النفي لتأكيد النفي، والاستثناء في ‏{‏إلا ابتغاء وجه ربه‏}‏ مُنقطع، أي لكن ابتغاء لوجه الله‏.‏

والابتغاء‏:‏ الطلب بجد لأنه أبلغ من البغي‏.‏

والوجه مستعمل مراداً به الذات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ومعنى ابتغاء الذات ابتغاء رضا الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولسوف يرضى‏}‏ وعد بالثواب الجزيل الذي يرضى صاحبه‏.‏ وهذا تتميم لقوله‏:‏ ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ لأن ذلك ما أفاد إلا أنه ناج من عذاب النار لاقتضاء المقام الاقتصار على ذلك لقصد المقابلة مع قوله‏:‏ ‏{‏لا يصلاها إلا الأشقى‏}‏ فتمم هنا بذكر ما أعد له من الخيرات‏.‏

وحرف «سَوف» لتحقيق الوعد في المستقبل كقوله‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏ أي يتغلغل رضاه في أزمنة المستقبل المديد‏.‏

واللام لام الابتداء لتأكيد الخبر‏.‏

وهذه من جوامع الكلم لأنها يندرج تحتها كل ما يرغب فيه الراغبون‏.‏ وبهذه السورة انتهت سورة وسط المفصّل‏.‏